إغلاق الجزيرة- إسرائيل تخسر معركة الرواية وتواجه الإدانات

المؤلف: مَاجد إبراهيم11.01.2025
إغلاق الجزيرة- إسرائيل تخسر معركة الرواية وتواجه الإدانات

إن مداهمة وزارة الاتصالات والشرطة الإسرائيلية لمقر قناة الجزيرة في القدس وإعلان ذلك في وسائل الإعلام، يذكرنا بالممارسات القمعية التي تقوم بها بعض الأنظمة، على الرغم من أن حكومة المتطرفين الكاهنيين تحاول تبرير أفعالها بقرار حكومي شامل، زاعمةً على لسان نتنياهو أن "مراسلي الجزيرة يضرون بأمن دولة إسرائيل ويحرّضون على جنودنا!".

وقد كان وصف رابطة الصحافة الأجنبية لإسرائيل بأنها انضمت بهذا القرار إلى "نادي الحكومات الاستبدادية المشكوك فيه" دقيقًا ومناسبًا، بينما وصف المقرر الأممي المعني بالحق في السكن هذا القرار بأنه "رد فعل نظام مرتبك وخائف من الحرية".

في الواقع، جاء قرار حكومة الاحتلال بناءً على توصية من جهاز الأمن "الشاباك" لتبرير قرار سياسي محض، تم الإعداد له بحملة قادها وزراء اليمين المتشدد، ولا يمت بصلة لأي مخالفات ارتكبها مراسلو القناة. وقد تم التخطيط المسبق لهذا القرار من خلال إقرار الكنيست في 1 أبريل/نيسان الماضي بالقراءات الثلاث لمشروع قانون "منع المساس بأمن الدولة من قبل هيئة بث أجنبية"، الذي يسمح بإغلاق أي قناة بحجة أنها "تضر بأمن الدولة" وبتوصية من أي جهاز أمني، والذي أُطلق عليه "قانون الجزيرة"!

ويأتي هذا القرار في سياق استكمال مساعي الاحتلال لطمس الصورة الحقيقية القادمة من غزة، بعد منعه جميع وسائل الإعلام الأجنبية من التغطية في غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول، بحجة أنها منطقة عسكرية مغلقة.

التوقيت والدلالة

لكن توقيت القرار يكشف عن دلالات واضحة، إذ جاء في خضم حملة تحريض إسرائيلية ضد قطر ودورها كوسيط، بدأت بالتسريب المتعمد الذي نشره نتنياهو في 25 يناير/كانون الثاني، حيث وصف قطر في لقاء مع أهالي الأسرى بأنها "إشكالية" مثلها مثل الأمم المتحدة، وأنها لا تمارس ضغوطًا على حماس من خلال وساطتها، بل إنها تمولها، معبرًا عن "غضبه الشديد" من قرار واشنطن تجديد اتفاق يبقي على الوجود العسكري الأميركي في الدوحة لمدة عشر سنوات إضافية!

ثم شنت حكومة نتنياهو حملة تحريض ضد قطر بين أعضاء الكونغرس الأميركي، حيث دعا النائب الديمقراطي الأميركي ستيني هوير في 16 أبريل/نيسان الولايات المتحدة إلى إعادة النظر في علاقاتها مع قطر، منتقدًا إياها لعدم ممارسة ضغوط كافية على حماس للتوصل إلى إطلاق سراح الرهائن!

وصل الأمر إلى أن تنشر صحيفة جيروزاليم بوست العبرية تقريرًا بعنوان: "من يقف وراء الاحتجاجات المعادية للسامية في الولايات المتحدة؟" بتاريخ 30/4/2024، وزعمت فيه وجود "صلة مقلقة بالتمويل القطري والأيديولوجيات المتطرفة للاحتجاجات المعادية للسامية في الولايات المتحدة الأميركية"!

هذا التحريض دفع قطر إلى الإعلان عن أنها بصدد مراجعة دورها في الوساطة، سعيًا لوقف هذه الاتهامات والتخلص من الضغوط، ووضع الإدارة الأميركية، التي تثق بنزاهة الدور القطري، أمام مسؤولياتها لوقف هذا التحريض المستمر.

والحقيقة أن وتيرة التحريض الإسرائيلي على قطر ازدادت مع فشل الاحتلال في إجبار حماس على الموافقة على صفقة تبادل تلبي المطالب الإسرائيلية، وذلك منذ وثيقة باريس التي تم التوصل إليها في نهاية يناير/كانون الثاني.

ويأتي هذا التصعيد في الأصل في سياق الأزمة العميقة التي يعيشها الكيان، نتيجة إخفاقه في تحقيق الأهداف التي حددها لعدوانه الغاشم على غزة، والتي تمثلت في القضاء على حركة حماس وتحرير الأسرى. فبعد مرور أكثر من سبعة أشهر على العدوان، عادت حماس لشن هجمات مركزة على قوات الاحتلال في الشمال وفي مدينة غزة وخان يونس، بالإضافة إلى استمرارها في الاحتفاظ بكامل قوتها في مدينة رفح، كما أنها استمرت في التمسك بمطالبها بوقف الحرب والانسحاب الإسرائيلي الكامل من غزة، والسماح بالعودة غير المشروطة للاجئين إلى شمال غزة، وإنجاز صفقة تبادل أسرى مشرفة، وتوفير الإغاثة والإيواء للفلسطينيين.

كما يأتي ذلك في خضم أزمة العلاقة المتصاعدة مع إدارة بايدن بشأن المرونة في صفقة الأسرى، وفي التعامل مع السلطة الفلسطينية، وفي تصور المرحلة التي تلي الحرب، وفي عملية اجتياح رفح المكتظة بالنازحين.

ويتزامن ذلك أيضًا مع تراجع الدعم الغربي الرسمي للكيان، وتلويح العديد من الدول الغربية، والتي كانت قد قدمت الدعم للعدوان في بدايته، بوقف إمداد الكيان بالأسلحة ما لم يوقف حربه المدمرة على غزة، بالإضافة إلى محاكمته غير المسبوقة في محكمة العدل الدولية، واحتمال أن يصبح قادته – وعلى رأسهم نتنياهو ووزير دفاعه ورئيس الأركان – مطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية، فضلًا عن انهيار صورة إسرائيل في الإعلام الغربي وخصوصًا لدى فئة الشباب، واشتعال المظاهرات المناهضة للاحتلال في الجامعات الأميركية والغربية.

دور الجزيرة

لا شك أن قناة الجزيرة، بحضورها القوي وتواجد مراسليها الميدانيين في غزة والضفة الغربية، تمكنت من نقل الصورة الحقيقية للأحداث التي يحاول الاحتلال طمسها من خلال الناطق العسكري وتصريحات قادته المضللة، حتى بالنسبة للجمهور الإسرائيلي. فكل ما حققه الاحتلال هو ارتكاب المجازر المروعة واجتياح المستشفيات وتدمير المدارس والمنازل على رؤوس ساكنيها.

بل إن الجزيرة استطاعت بفضل الثقة التي تحظى بها لدى المقاومة والسكان الفلسطينيين أن تحصل على مقاطع فيديو مسجلة قامت ببثها، والتي شكلت فضيحة مدوية لقوات الاحتلال، مثل فيديو استهداف مدنيين عزل بطائرة مسيرة (21/3/2024)، وقتل جنود الاحتلال لمدنيين أثناء محاولتهم العودة إلى شمال غزة عبر شارع الرشيد، ثم دفن جثث الشهداء في الرمال وبين القمامة (27/3/2024)، بالإضافة إلى نشرها مشاهد المجازر التي ارتكبها الاحتلال في اجتياحه الأول ثم الثاني لمستشفى الشفاء، وصور المقابر الجماعية التي خلفها الاحتلال وراءه بعد اجتياحه مستشفى كمال عدوان في خان يونس!

وربما كان الأمر الأكثر إزعاجًا للاحتلال هو أن الجزيرة دأبت على نشر مقاطع الفيديو الكاملة التي تبثها كتائب القسام وبقية فصائل المقاومة، والتي تستهدف فيها دبابات الاحتلال وآلياته بقذائف الياسين، وتنصب الكمائن المميتة لجنود الاحتلال، وتقنصهم ببندقية الغول. هذا بالإضافة إلى نشر مقاطع فيديو القسام التي تتحدث عن مصير الأسرى لديها وتعرضهم للخطر بسبب قصف قوات الاحتلال، وهو الأمر الذي أثار ويثير غضب أهالي الأسرى ويدفعهم لتصعيد احتجاجاتهم المطالبة بعقد صفقة تبادل أسرى مع حماس!

كما شكلت هذه التغطية الإعلامية مادة دسمة لإشعال الاحتجاجات في العالم العربي والغربي، فضلًا عن أنها حفزت جنوب أفريقيا على رفع دعوى الإبادة الجماعية ضد الاحتلال في محكمة العدل الدولية.

في الواقع، كانت الجزيرة بذلك تؤدي دورها المنشود بكل مهنية في إطار المسؤولية الأخلاقية والوطنية التي تحتم عليها الكشف عن الحقائق كما هي، ولهذا السبب دفعت أثمانًا باهظة من أرواح صحفييها، كما فعلت سابقًا ودفعت أثمانًا مماثلة في العراق وأفغانستان. ولكنها بهذا الدور كسرت الرواية الإسرائيلية وكشفت زيفها وفضحتها، الأمر الذي كان له تأثير كبير – جنبًا إلى جنب مع وسائل التواصل الاجتماعي – في حشد الاحتجاجات ضد الاحتلال في كل مكان في العالم.

"القرار الذي اتخذ في الحكومة بالإجماع وكأن الأمر يتعلق بالعدو الأكثر خطورة على إسرائيل، ظهر كنتيجة للإحباط وتصفية الحساب مع قطر. ولكن إسهامه الحقيقي يكاد يكون صفرا في المعركة حول "الدعاية"، التي هي فشل شامل آخر للحكومة"

بواسطة تسفي برئيل (الخبير الإسرائيلي في شؤون الشرق الأوسط)

فاعلية القرار

نظرًا لأن الرواية الصهيونية بدأت بالتلاشي بسبب ذلك، فقد لجأ الاحتلال إلى إجراءات عقابية بحق القناة، إلا أن هذا القرار لن يؤثر على قناة الجزيرة بشكل كبير، فهو يقتصر فقط على وقف عملها في الأراضي المحتلة عام 1948، بينما لا تملك إسرائيل صلاحية تطبيقه على الضفة الغربية وقطاع غزة، وإن كانت تستطيع، كسلطة احتلال، أن تعتقل صحفيي الجزيرة بحكم تواجدها العسكري في هذه المناطق.

لكن هذا لن يمنع الصحفيين من الاستمرار في عملهم في ظل ظروف يعرفونها جيدًا، فقد اعتادوا على التضييق والملاحقة، بل وعلى القتل أيضًا كما حدث مع الصحفية شيرين أبو عاقلة.

ستستمر الجزيرة في أداء مهمتها الصحفية النبيلة، وستنشر مقاطع الفيديو التي ترصد عمليات المقاومة وبياناتها وتصريحات قادتها، وستظل صورة "أبو عبيدة" التي تغيظ المحتلين حاضرة على شاشاتها، وذلك ببساطة لأن المقاومة مستمرة، والشعب الفلسطيني صامد، والجزيرة تنقل هذا الواقع وتعكسه من خلال مرآتها الصادقة التي لا تعرف الزيف.

لن يجني الاحتلال من هذا القرار أي نتائج ملموسة في محاصرة الرواية الحقيقية، بل إنه بهذا الإجراء يعزز صورته القمعية التي تكبت الحريات، على عكس ما يحاول أن يصوره لنفسه كواحة ديمقراطية وسط غابة من الدكتاتوريات.

وسيستمر الاحتلال في تدمير ما تبقى له من مصداقية، وحصد المزيد من الإدانات الدولية، إذ إنه لن يتمكن من حجب الصور القادمة من غزة والضفة الغربية والتي تكشف عن جرائمه ووحشيته.

لذلك، ستستمر الاحتجاجات المدوية في جميع أنحاء العالم، وخاصة في الجامعات، ضد عدوانه الفاشي الهمجي على غزة، وذلك على الرغم من استمرار تحريضه ضدها ووصفها بالمعادية للسامية، هذا فضلًا عن خسائره المتلاحقة على أرض المعركة أمام صمود المقاومة وتحدي وإباء الشعب الفلسطيني.

ويكفي هنا أن نورد ما كتبه الدكتور تسفي برئيل الخبير في شؤون الشرق الأوسط في صحيفة هآرتس العبرية: "القرار الذي اتخذ في الحكومة بالإجماع وكأن الأمر يتعلق بالعدو الأكثر خطورة الذي يواجه إسرائيل، ظهر كنتيجة للإحباط وتصفية الحساب مع قطر. ولكن إسهامه الحقيقي في المعركة الفاشلة أصلا حول "الدعاية"، والتي هي فشل شامل آخر للحكومة، يكاد يكون صفرًا"، متسائلًا عن الدواء الذي تملكه الحكومة الإسرائيلية لآلاف الحسابات في فيسبوك وتليغرام وتيك توك، وهي المنافسات الرئيسية للقناة "حيث توفر معظم المضامين التي تبني صورة إسرائيل في العالم".

وأضاف: "تصفية الحسابات" مع قطر عبر إغلاق مكاتب "الجزيرة" في إسرائيل لن يغير مكانة قطر في الولايات المتحدة، ولن يؤثر على علاقتها مع حماس. ولكن هذه خطوة يجب أن تقلق جميع وسائل الإعلام الإسرائيلية، وأي صحفي عاقل لا ينجح في الوصول إلى ميدان القتال في غزة وأن ينشر مباشرة من هناك".

وفي الختام، إذا كان نتنياهو لا يزال يعد بالنصر الكامل، فإنه لن يحققه على الأرض قطعًا، وفي الوقت نفسه فإنه يخسر معركة السردية، ومعركة حقوق الإنسان، ويواجه المحاكمات الدولية التي تلاحقه. بل إنه يهز حتى تحالفه المتين مع الإدارة الأميركية التي بدأت تفكر جديًا في حظر تصدير بعض أنواع الذخائر له (مع استمرار دعمها له في الحرب وتزويده بالأسلحة الفتاكة) في محاولة من هذه الإدارة لحفظ ماء وجهها أمام جمهورها، وتهدئة الاحتجاجات المستمرة التي تهدد فرص بايدن الانتخابية، ومحاولة الحفاظ على تحالفها الغربي المتصدع.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة